سـرد العشـب
(ملاحظات عامة على مجموعات قصصية جديدة)
*محمد خضير
التاريخ، في نظر الروائي الروسي ليون تولستوي، ينمو كما ينمو العشب، بينما يرى غيره أن التاريخ يتشكل بإيقاعات حفلٍ راقص (اهتزازات، تشنجات، التواءات). وفي نظري أن التاريخ (بصورته السردية) يأخذ بزمام السرد على هواه في الحالتين، رقص مجنون ونمو هادئ غير ملحوظ. وحين يُتاح أن يجاور حفلٌ للرقص المحموم حقلاًُ للعشب، فإن النصوص السردية تدخل زمنها الجديد بإيقاع لا إرادي، وتنمو كما ينمو العشب.
من ناحية أخرى، فإن التاريخ يشق طريقه السردية على مرحلتين: مرحلة الكاووس ومرحلة الناموس (الفوضى والنظام أو البداية والنهاية) خلالهما يتخفّى القاص خلف أقنعته الذكورية والأنثوية ورموزها الطوطمية. أثبّتُ هاتين الملاحظتين السرديتين عن التاريخ، لظني أن النصوص السردية الجديدة التي قرأتها في السنوات الأخيرة لم تجتز مرحلة البدايات وأنها تظهر بمظهر ملتبس تعمل فيه الروح الطوطمية بقسط وافر والانقلاب الجنسي بقسط أوفر. ولا غرابة في أن قصص أغلب القصاصين العراقيين الذين ما يزالون يقطعون مرحلة البدايات السردية تقع تحت طائلة الإرث الجمعي لهذه الروح الطوطمية. إلا أن التعديل الأساسي الذي أريد أن أثبته لاحقاً لهذا الرأي، هو أن السرود الجديدة هذه تجاهد للانتقال من مرحلة الرقص مع الطواطم إلى مرحلة الرقص على العشب مع شخصياتها الحية.
المسخ، الجنون، الخصاء، هي مهيمنات (الماضي) الراقصة على إيقاعات الزمن الجديد، كلما توقف الرقص هنيهة عادت فهيمنتْ على روح السرد التجريبية وضيّقتْ مساحاته. وما دمنا نتراجع ونكرر البدايات دونما توقف، فإن الرقص يحرمنا من فرصة تأمل نمو العشب، وتجريب بدايات جديدة بعد تشذيب نهاياته. يأسرنا الماضي بطريقته في إحلال الروح الذكورية داخل الروح الأنثوية، ثم تجريب لغةٍ وظيفتها الأولى إنشاء إيقاع مأساوي يؤكد الحلول السابق ويطوع الأشياء لرؤية أنثوية سلبية (مثال ذلك: وصف قطار يدهس امرأة شابة بإنشاء جنسي حلولي بديل للإنشاء الجنسي بين الذكر والأنثى، أو تحميل المدن والأماكن محمولات المدن الخاطئة التي نالت غضب الربّ، كما تُستخدم الطبيعة في هذه القصص لتجسيد رؤية طوطمية طقسية، إذ تحلّ اللعنة على من ينتهك رمزيتها) وليس على القصة إلا أن تنشغل كلياً في تأويل العلاقة الحلولية بين الإنسان والطوطم، والانقلاب الجنسي للشخصيات التي تحلّ عليها اللعنة، ورسم الطرق للخروج من مدن الخطيئة. لكن ربما كانت هذه الإضافة في القصص الجديدة هي التي وضعتها على مسافة من حفل الرقص الذي لم تغادره القصة العراقية، على اختلاف نماذجها، منذ سنوات التجريب الخمسيني والستيني. ولا أحسبها إضافة قليلة الشأن، وإن كانت أشبه بالانتقال من مأساة (رجل الشارع، أو الرجل الصغير) إلى مأساة بروموثيوسية عراقية بمزايا متواضعة. ويبدو هذا الانتقال غير ملحوظ كنمو العشب أو كلحن خافت منفرد لم ينقطع لحظة، فقد ظلّ (الماضي) يعمل بدأب تحت البساط الأخضر للرموز والألفاظ. ولا أظن أن الاشتباك الطوطمي والجنسي في القصص سيتيح لها ملاحظة النمو الهادئ للعشب في الحقل السردي الوسيع قبل أن تقترب من مرحلة النهايات (الناموس).
تفضل السرود الجديدة أن تقدم ثيمتها على أنها (نبوءة) لا سبيل إلى اعتراض إيقاعها المهيمن، وربما كان هذا التخريج سبباً في التوتر الذي يجعل لغة السرد مظهراً لالتباس الهويات، وصراع الشخصيات مع قدرها، ثم تراسل القراءة المتوتر والمؤلم باعتباره قصداً لتلك النبوءة التي لا ردّ لقدريتها ويقينيتها. لكن الثيمة المشفّرة في صورة قصة رمزية، ستهدر قصدها النبوئي جزافاً إذا وقعت بيد قارئ غافل لن يشارك القاص التباس هويته السردية ولن ينتبه إلى إنشائه الحلولي. إن القصة الرمزية تعمل على إنهاك الهدوء القرائي التلقائي، وتسدّ الآفاق على توقعات القارئ الاعتيادي. ثمة ضخّ عنيف للرموز، واهتزاز متواصل للجمل السردية بين البداية والنهاية. ثمة أصوات مخنوقة خلف الستارة ما أن يتاح لها التقدم إلى خشبة المسرح حتى تجهر بخطابها النبوئي المتوتر، ويظهر القصاص بقناع العرّاف. إننا في مكان جديد مقتطع من زمان سابق، وكثيراً ما يعمل الخطاب النبوئي على دمجهما كما يمسح الفارق الحقيقي بين الذكر والأنثى (الفارق رمزي، شعائري، حلولي). وغالباً ما تتكون القصة من حالات مشهدية متعاقبة تُلحِق البداية بالنهاية بعد دورة من التعليقات والهوامش، أو بعد اهتزازة راقصة متشنجة في رحم الماضي. لقد فاتنا هنا أن نلاحظ نمو العشب، فقد داسته الأقدام الطوطمية باندفاع عنيف، وفي الأغلب نحن نبقى عند البداية ولن نبلغ النهاية أبداً. بقي الصراع معلقاً، بل أن الصراع معدوم، حيث تعني (مقابل) واو المعية ولا تعني (ضد).
تُرسَم الشخصياتُ لكي تجاري النسب غير الطبيعية للأشياء والبشر إضافة إلى أشكالها وألوانها، في مدن مثالية تدخلها، أو كي تعبر عن وجودها في مدن (الخطيئة) التي تُنفى إليها. إن المشاهد المرسومة هنا موازية لمشاهد القيامة، حيث تفقد الشخصية الإنسانية ملامحها الأصلية، كما أن الأسلوب يجاري بزخارفه اللفظية تحولات الأشخاص والأشياء في سموها المقدس أو هبوطها المدنس إلى أسفل سافلين. وتزخر القصص بعبارات لا نجد لها نظيراً إلا في الملاحم الشعرية التي تكتسي بألفاظ ما ورائية تمنح هيكلها العظمي لحماً ونضارة. لكن حين ترد هذه العبارات في قصة قصيرة فإن تمثلها الشعري يحتاج إلى تركيز كبير، فكأنّ القصاصين الجدد أعادوا الاعتبار إلى البلاغة التي يجب أن تُكتب بها قصص (الرجل الصغير أو, رجل الشارع). بهذا التمثيل الشعري تكتسب النبوءة قصداً عالياً من الحلول الرمزي. ولربما أغفل القارئ المتعجل تنويراً عرضياً ترسله عبارة متوسطة، أو مجموعة عبارات هامشية، هو أقوى مما ترسله عبارة الخاتمة عادة. وقد تنثر القصص جواهرها عبثاً ولا تعتني بعرضها أو تنسيقها كما يقتضي سرد العشب المتنامي تحت النظر كقصيدة شعر.
عموماً، تضمّ المجموعات القصصية الجديدة نصوصاً قائمة على ضخّ الجمل السردية المفاجئة، المتلبسة قناع الرمز النبوئي، المفتتحة كما المنتهية بتعاقب مشهدي مسرحي، الطافحة بوحدة الوجود، وانقلاب الذكر في الأنثى، وأخيراً المعبرة عن طاقة سردية تتخطى حقل العشب بخطوة راقصة عملاقة، حتى تبلغ نهاياتها على هذا النحو، مهتزة دائماً، لا مستلقية بهدوء. إن هذه السمات تتناسب واختيار القصاصين الجدد شخصياتهم، فهي عملاقة، منزوعة الجنس، بالرغم من تقمصها نماذج تاريخية مجنَّسة. فضلاً عن أنها تتناسب والمدن المثالية المقابلة للمدن الراذلة (مدن اليأس والغبار والخطيئة) وكلها مدن مصعّدة (مرمّزة) لمدن الحصار والقمامة والمقابر الحقيقية. وما عدا شخصية الراوي الضمني المرتبطة بشخصية القاص الموثقة بإشارات عن حياته الشخصية، فإن الشخصيات المرمّزة تبدو على قدر كبير من الضخامة والتجريد والنفوذ ما يجعلها طواطم يستدعيها الراوي الحقيقي إلى مدنه ويرقص معها ويتماهى في جنسانيتها المنقلبة ويتصاغر لسطوتها على سرده ويمتثل لنبوءتها التي ينقلها لقارئه. أما محاولة الراوي التخلص من هذه السطوة والخروج من حفل الرقص إلى حقل العشب فغالباً تكلّفه حملاً فوق طاقته، إذ أنه يشعر بقلق وألم مصدرهما الكاووس الذي يسكن وادي البدايات السردية. فإذا كان القاص الجديد قد أزمع على تجريب سرد العشب، واللقاء بنهايات الناموس، وجب عليه أن يشذب حقله جيداً بعد كل محاولة لمغادرة أرض الطواطم.
*قاص عراقي
للعـــــــــــــــودة للصفحـــــــــــة الرئيســـــــــة – العــدد العاشــــــــــر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق