صدوع
* د. أسعد الأسدي
تتجول بين البيوت ، تسير في محاذاة جدران الاسيجة ، تواجهك العديد من تلك الجدران وقد مزقت سطوحها الصدوع ، تمتد شبه أنهار في صفحة الجدار . وإذ تقترب من الجدار يلاقيك الصدع عريضا ، يمكن لك في أحيان ان تمد داخله أصبعك ، ويبدو أنه يأذن للحشرات ان تعبره بيسر . ومع ان الصدع لا يتيح ممرا نافذا لعبور الجرذان ، غير انها يمكن أن تتسلق الجدار او تحفر اسفله كي تجد سبيلها الى الداخل وسط الحديقة . لا تنشغل هذه البيوت في تشييد جدران أسيجة متماسكة وعنيدة ، فتجدها سهلة امام نفاذ خيوط أثقالها الى الارض ، وقد بدأت تتحرك وتلتم وتتهدم اسفل الاسيجة ، ليسكن جسد تلك الأسيجة ، التحلل .
عندما بدأ الصدع ينفذ الى صفاء الجدار حسبتها الشمس ، حرقته وحركت مساماته وباعدت بين الطابوق الهش وبين العمود الخرساني الصلد ، وقلت يومها انه الدفأ ، وتفاوت معاملات تمدد المواد المختلفة التي تبني الجدار ، هو من أوى الصدع ، الذي وجدته يغافلك ويمضي يستفحل ، ويمد جسده الراعش في صمت وعناد ومخاتلة ، وبدا ان نزولا في الارض وهي تغطس بفعل اثقال البيت ، يقود الجدران الى التحرك نحو الاسفل ، ويتسبب في تمزقها ونفاذ الصدوع في جسدها . وكما تنمو اوراق الاشجار جديدة كل صباح ، وكما تمتد اعواد الورد في حديقة البيت ، كانت تنمو وتمتد خيوط التمزق في الجدران . لقد نفذ صبر زوجتك اذ تداهمها الصدوع التي تحضر في الجدران كل نهار ، وتتسرب في غفلة الى الشعور ، فتدخل في حواراتكما مخلفة القلق والخوف وكلمات العتاب الحارقة ، ( لماذا وحدها جدراننا تتمزق ؟ ) وتتذكر في صمت كيف كان العمل سريعا ، لم التمهل والصبية يسكنون في الطابق السادس في عمارة سكنية مكتظة ، يعوزها على الرغم من علوها المصعد . أنتم في حاجة الى مأوى في الارض ، وان كان ممزقا .
الصدوع التي تحضر في جدران البيوت العتيقة ، مرحب بها . هي بعض العتق الذي يشي ان تلك البيوت ليست شيوخا ، بل ومعمرة ايضا ، تباري الزمن وقد عبرت العقود من السنين دون ان يطالها الانهيار او الازالة ، وعندما تتاح لها بعض العناية ، تعود لمحياها الفتنة ، ويسكن لون جدرانها الزمن . العمر لا يحصد النضارة ، ثمة امل في الجمال على الرغم من أنقضاء السنين ، حيث التلطف بأثار اقدام الزمن العابثة في احيان والمجيدة في احيان أخرى . الزمن الذي يخلف اثاره على الجدران هو ليس عمرها وحسب ، بل هو مجدها ايضا ، في شقوق واخاديد تعاد لحمتها فتعد بسطوح قديمة وجليلة . الصدوع التي تحضر في جدران البيوت القديمة ، وعلى الرغم من لغتها التي تعلن التحلل ، فأنها تبدو جليلة .
الاشياء القديمة هي اشياء نالت من الحياة حظا اكبر ، قد لا يتاح لجديد الاشياء ان تناله . كيف يأمن من في العشرين ان يحظى بالعقود الخمسة التي نلتها ؟ لم الخوف من أفول السنين ؟ للاشياء ان تنال الحظ فتعمر ، ولسواها ان تبرق لامعة هذا النهار ، دون ان يغير الوانها توالي الخريفات ، ولا يعود في قدرتها ان تسكن العمر وتحمله الى الزمن القادم .
الصدوع التي تنمو على السطوح هي بعض تمزق وتهدم واذى ، تتعرض له اجساد الاشياء . قد يمشي الصدع مستقيما ، وقد يمشي منحنيا ، وقد يلف ويدور وهو يتقدم متحركا دونما اتجاه محدد ، مادا خطواته في متاحات الضعف في جسد المادة ، فاضحا احتمالات الخلل والتحلل . حين يكون الصدع مستقيما ، يمكن للاشياء ان تستعيد أكتمالها . الصدع الذي يكون عابثا ، وحده الذي يشير الى التهدم ويؤذن بالتشظي ، غير ان الشظايا في زمن ثقافة التفكيك ، تجد من يعيد اليها السكينة ، في تكوين جديد لغته الشظايا ، وخارطته الصدوع والشقوق التائهة .
بنطال قطني جديد أزرق ، ممحو لونه في مكان وممزق في مكان أخر ، متكسر جلده في مفصل الركبة ، كما لو كنت ارتديته وامضيت الساعات جالسا القرفصاء ، يبدو رثا على الرغم من جدته ، في أثار استهلاك مديد ترك بقاياه وهي تشغل قماشة البنطال الانيقة .
اغنية عاطفية هادئة ، تأخذك مشاهدها الصادمة الى منشأ صناعي او مخزن لأدوات وأشياء عتيقة ، تلحظ المكان مملوءا بمعدات يدوية واخشاب وبقايا مكائن مهملة وعاطلة ، درجات سلم متهدمة وسقيفة تكاد تتساقط عنها الواحها ، وهي تتكشف عن بعض حطام ، وبنطال المغنية ممزق ورث ، بلون حائل يوافق الوان الاشياء والمكان من حوله ، غير ان اللحن مازال يمد في عذوبته ، والكلمات لا تني تقرأ اللطف والدفأ في القول .
البيت الذي دعيت اليه ظهيرة يوم شتائي بارد ، جدرانه اذ لقيته من الخارج تشكو قدمها ، تعبرها الشقوق التي تحفر في الجدران خطوطا لينة ومتكسرة ، وانت تذهب الى الشعور بجلالة تلك الجدران ، تقودك الى الداخل حيث زهو الاناقة والعناية ، في سطوح بيض صقيلة ، تغزو حافاتها نقوش وزخارف هندسية دقيقة وملونة ، وتلحظ كم انت في فضاء داخلي حميم غاية في التهذيب .
الثقوب والشقوق والصدوع ، المحتمل تجليها في الاشياء وهي تستحيل رثة في زمان قادم ، تأتي الى اللحظة الحاضرة ، ملامح جادة في اشياء انيقة وجديدة ، في نية استحضار عطايا الزمان القادم ، كما لو كانت بعض الحاضر . تداخل في الازمنة ، يلم اثار القدامة وجلالها في تألق الحاضر وبهائه .
شق يرسمه المنشار وهو ينفذ في ارضية المسرح الخشبية ، ويدور حول منصة الالقاء تتوسط المسرح ، منشغل فيها وبجدية واضحة من يقرأ خطابا مطولا ، وبعد دقائق عديدة ، تكتمل دورة المنشار ، وتهبط في ضوضاء ، دائرة مرسومة ، فيلقى شاغل المسرح جسده حطاما تحت خشب الارضية المتهدمة .
*أكاديمي عراقي
للعـودة للصفحة الرئيسة - العدد العاشر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق