الثلاثاء، 1 مارس 2011

تكست العـدد العاشــر:مدخل إلى علم السرد د.محمد عبيد الله

مدخل إلى علم السرد

د.محمد عبيد الله

1. مدخل

لاشك أن "الممارسة السردية " بمعنى تداول الحكايات والقصص "مشافهة وكتابة "ممارسة قديمة جدا ، زمنا ، كما أنها من الأمور المشتركة بين مختلف الثقافات و عند جميع الشعوب ، فليس هناك شعب من دون قصة ، و كما يقول رولان بارت "إنها لحاضرة في الأسطورة ، و الخرافة ، و حكاية الحيوان ، و القصة القصيرة ، و الملحمة ، و التاريخ ، والتراجيديا ، و المأساة ، و الكوميديا ، و المسرح الإيمائي ، و الصورة الملونة .. أن القصة لحاضرة بكل هذه الأشكال غير المتناهية تقريبا ،في كل الأزمنة و في كل الأمكنة ، وفي كل المجتمعات ، و إنها لتبدأ مع التاريخ الإنساني نفسه : فلا يوجد شعب لا في الماضي و لا في الحاضر و لا في أي مكان من غير قصة .



لكن الحضور الطاغي لهذه الممارسة بوصفها عرفا أو تقليدا ثقافيا ، لا يعني أن التصنيف الأدبي و النقدي قد أخذها على محمل الجد منذ وقت طويل ، و الغالب أنها ظلت تعامل بوصفها " لا نص" أي خارج اعتبارات الثقافة المعترف به من ناحية تقويمية ، انها ليست " أدبا " يستحق التسجيل و التدوين و أشكال الدراسة أو التحليل . و لذلك فان أدبيات دراسة هذه الظاهرة متأخرة جدا لم تتبلور ابعد من القرنين السابقين و القرن العشرين بصفة مركزة .



و مقابل الإقصاء التاريخي لكل ما يقع ضمن دائرة الحكاية أو القصة أو السرد ، تحول العالم كله إلى مركزية الاهتمام بها ،و قد تبلورت لها نظرية أو نظريات ،و طمح آخرون لان يتحول الاهتمام بها في صورة علم مستقل ضمن هاجس العلمية في الخمسينيات و الستينيات من القرن الماضي ، هاجس أن يتحول البحث في الأدب و النقد إلى علم دقيق محاكاة للبحث في العلوم التجريبية و علوم اللغة و ما أشبه ذلك من حقول تطورت من مجرد التفسير و التعليق الانطباعي إلى صيغ دقيقة من المنهجية العلمية و بصرف النظر عما حققت مختلف النظريات و المناهج و التيارات فان جهودها مجتمعة قد حولت الاهتمام بالسرد إلى مركز الاهتمام الأدبي و الثقافي ، بحيث صار قسيما أساسيا في الثقافة و في النقد الحديث.



و قد بدا الأمر في النصف الأول من القرن العشرين ضمن دائرة البحث عن نظرية للرواية و القصة و قد تكون بعض المصنفات من مثل : أوجه الرواية لادوين موير ، و صنعة الرواية لبيرسي لوبوك ، من الأمثلة البارزة على هذا النوع من الاهتمام ، أي محاولة بلورة نظرية للرواية ضمن نظرية الأدب،و ضمن تحويرات و تطويرات لمبادئ التصنيف و التجنيس كما أسسها ارسطو في "فن الشعر" و "فن الخطابة" أي اعتمادا على التقاليد الإغريقية في النظرة للفن وهو ما يتضح في كتاب رينيه ويليك و اوستن وايرن المعروف "نظرية الأدب" ، ويمكن اعتبار هذا الكتاب العلامة المميزة ضمن الكلاسيكية الحديثة في النظرية و متعلقاتها .



أما التحول الآخر فهو الانتقال من نظرية الرواية الى السرديات أو علم السرد ،و يعني العلم الذي يختص بدراسة السرد بمختلف إشكاله و أنواعه ، أي انه لا يقتصر على الرواية أو القصة القصيرة ، بل يتعداهما إلى الأنواع التقليدية الأخرى أو المعاصرة ، بل يوسع مجاله يشمل السرديات غير الأدبية و سرديات التاريخ و سرديات الصورة و غير ذلك .











أما الحقبة الذهبية في الثقافة الغربية لهذا العلم فتمتد حتى نهاية الستينيات من القرن الماضي إذ أنجزت في ذلك العقد الكتب الأساسية فيه و يمكن اعتبار كتاب جيرار جينيه "خطاب الحكاية " الذي نشره ضمن مجلد "محسنات ///1972" أكمل جهد ضمن هذا التيار في بناء منهجية غنية بالمصطلحات والتحديدات الدقيقة المرتبطة بدراسة الخطاب السردي ، أما كتابه "خطاب الحكاية من جديد " 1983، فليس إلا استطرادا دفاعيا عن أطروحته الأولى 1972 فقد أتاحت له المآخذ التي وجه بها كتابه أن يناقش أطروحته من جديد و يدافع عنها بذهنية نشطة متفتحة ، على الرغم من انسحاب البنيوية من صدارة النقد الأدبي و حلول تيارات جديدة مناقضة و مناهضة "3".




لقد طبعت البنيوية دراسة السرد بطابعها ، ويمكن القول بأننا لا نستطيع تناول السرديات بعيدا عن النموذج البنيوي ، سواء أخذنا بالطابع الشكلي الذي تعاد جذوره الى فلاديمير بروب في الشكلانية الروسية ، و يكتمل عند بارت " التحليل البنيوي للسرد و يأخذ بلاغته الكاملة عند جيرار جينيه في "خطاب الحكاية" او كان خيارنا السيميولوجيا السردية ، بأصولها عند بارت "في تحوله السيميولوجي " و عند كريماس الذي يعد مؤسسا و رائدا للسيميولوجيا السردية ، فالسرديات بهذا المعنى ، و على الرغم من كل الرثاء و التأبين الذي تعرضت له البنيوية بعد انقضائها كموضة باريسية بصفة خاصة ، تدين للبنيوية في تطورها و تشكلها و في ان تصبح حقلا من حقول الدراسة الأدبية المعاصرة .



2.مفاهيم أساسية


نقصد هنا تبسيط بعض المفاهيم و المبادئ الأساسية و المصطلحات الشائعة في دراسة الظاهرة السردية من منظور علم السرد أو السرديات ليس بهدف تبنيها أو الدفاع عنها ، و إنما بقصد الفهم و التوضيح ، و خصوصا أن القارئ الذي "في الشرق العربي خاصة" لم يفهم البنيوية ، و إنما قرأ نقدها !! و لم يفهم السرديات عموما إلا بوصفها شرحا او تلخيصا مخلا لمعاني القصص و الروايات !!!




أولا: تنطلق "السرديات" من العناية بالأشكال الفنية و اكتشاف أنظمتها و عملها و تشكلها ، و لذلك لا تعنى بتفسير الأعمال الأدبية ، فالعمل الأدبي لا يتشكل من ناحية مضمونه و لا ما يقوله ، بل يتعلق الأمر بسؤال كيف؟ سؤال الكيفية هو السؤال الأساسي في هذا المنظور ، و لذلك فدراسة الشكل أولى من دراسة المضمون "كيف أسبق من ماذا" لأنها هي التي ستكشف لنا منطق الشكل الأدبي ، وتساعدنا في أن نقترب منه ، و في هذا المنطق لا تختلف السرديات عن منطلقات البنيوية بصيغتها العامة في شيء ، إنها نفس المنطلقات و الدفاعات و التحديدات النظرية الكبرى التي تفضي إلى تقديم دراسة الشكل و العناية الكبرى بها .



ثانيا: السرديات ينبغي أن تكون علما ، بكل ما تقتضيه "العلمية" من طموح للدقة والتحديد والوضوح،و هذا يمثل مطمحا بنيويا أساسيا ، أن يكون الأدب علما لافتا ، على شاكلة نموذج العلوم التجريبية ، وعلى شاكلة علم اللغة أو اللسانيات ، وقد استعير منهج دراسة نظام الجملة "نحو الجملة" ليطور إلى صيغة "نحو السرد" فكما أن الجملة الصغرى يمكن تحليلها إلى مكوناتها الجزئية ، بصورة علمية دقيقة ، فكذلك الحال في صيغة "القصة :الجملة" إذ يمكن أن يبلغ بها التحليل مستوى مشاكلا أو متشابها من الدقة و المعرفة المحددة البعيدة عن تهويمات المعنى .


ثالثا: يميز السرديون عموما "على اختلاف في المصطلحات " بين مستويين أساسيين في السرد .



الأول: مستوى القصة و يمكن تبسيطه بحيث يعني مجموعة من الأحداث و الأخبار و المواقف التي تتكون منها القصة، انه "الحدوتة" بالتعبير الشعبي ، الحبكة التي يتم تلخيصها في صورة حكاية مبسطة .



الثاني: مستوى الخطاب و يعني الطريقة التي تترتب فيها الأحداث و تتسلسل و تتركب في النص أو في القصة ، أي انه الصيغ الفنية و الشكل الذي تقدم فيه ، من ناحية : كيف تقدم ، و من يرويها و كيف تروى ؟ ما الاستباقات و ما اللواحق ؟ كيف يجري الزمن و كيف يرتب الخ ... و هذا هو الحقل آو المحور الذي تعنى به السرديات و لذلك يمكن اعتبارها دراسة في الخطاب أي في شكل السرد وليس في مضمونه أو في نوعية الأحداث أو محمولاتها ..كل هذا ليس له قيمة كبرى في الدراسة السردية ضمن هذا التيار . نظام الأحداث أهم من الأحداث نفسها . و الزمن الداخلي لتشكل السرد أهم من الزمن بمعناه الخارجي أو التاريخي .. هنا تكتسب الألفاظ معاني اصطلاحية مغايرة لما استقرت عليه . وإذا اعتبرنا القصة متنا حكائيا ، فان الدراسة السردية تتجه لاهتمام بالمبنى السردي ، فهو غايتها الأساسية و هو ما يستغرق جهد السرديين على ما بينهم من اختلاف يصل أحيانا حدود الرطانة المصطلحية إذ يدعي كل فريق أنهم وحدهم المصيبون ، أو من يقدمون النموذج الأفضل و الأكمل .



رابعا : مقترح رولان بارت : اقترح بارت في دراسته المركزة "مدخل إلى التحليل البنيوي للسرد" نموذجا وصفيا محكما ، حاول فيه ان يطور منطلقات "اللسانيات لبناء أسس و إجراءات منهجية في تحليل السرد ، فكما توصف الجملة وصفا لسانيا صوتيا و صرفيا و تركيبيا ، فكذلك الحال في القصة ، إذا ما تطورت نماذج تحليلها .


و لتوضيح نموذج بارت يمكن أن نثبت عناوين عمله "كما في ترجمة منذر عياشي " على النحو الآتي :


1. لغة القصة : و يدرس فيها أمرين أو مدخلين هما : ما وراء الجملة ، و مستويات المعنى .

2. الوظائف: والوظيفة مصطلح ابتدعه "بروب " و تعني عمل الشخصية أو ما يمكن إطلاقه على أدائها ، الشخصية في السرد تنهض بوظيفة محددة ، و يتأمل بارت في : تحديد الوحدات ، و طبقات الكلمات ، و النحو الوظيفي "وهو هنا لا يعني ما يفهم من التعبير ، بمعنى النحو التبسيطي ، و إنما يقصد تطوير نموذج لساني . لوصف الوظائف السردية و للتعامل معها ، كيف تبدأ الوظيفة و كيف تنتهي .



3. الأفعال : و البارز هنا أن الاهتمام بالأفعال يبدو بديلا من الاستغناء عن "الشخصية" فالأهمية للفعل و ليس للفاعل "الشخص" و مفهوم الفعل هنا مطور عن مفهوم "بروب " للوظيفة كما اقترحه "كريماس " بصورة تفيد من اللسانيات و آليات دراستها للجملة . و تشمل دراسة الأفعال عند بارت : نحو وضع بنيوي للشخصيات بحيث يركز على الفعل و يهمل " الشخص" و قضية المسند إليه " لاحظ المفهوم اللغوي المستعار للنقد الأدبي " .



4.السرد : و يبرز في مسألة الإيصال السردي "المرسل و المستقبل أو الراوي و المروي له" و يرى بارت أن الشخصيات ليست أكثر من كائنات ورقية ، وان المؤلف "المادي" للقصة لا يمكن أن يختلط مع راويها في أي شيء من الأشياء "التمييز بين الراوي و الكاتب ". كما يهتم بارت في مسألة "وضع القصة" بالتأكيد على حدود التحليل السردي ، فكما تتوقف اللسانيات عند حدود الجملة ، فان تحليل القصة يتوقف عند حدود الخطاب . وان أي تجاوز لهذا التحديد ينقلنا إلى مجالات وحقول أخرى مغايرة أو مختلفة عن حدود التحليل السردي .



4.نظام القصة : وفي هذا القسم عنوانان :انحراف واتساع ،والمحاكاة والمعنى . وفي المفهوم الأول نحس أن بارت يحاول زحزحة مفهوم الانحراف "أو الانزياح"وهو مفهوم لساني أسلوبي ليطبقه على السرد . فكما في اللغة "انزياح "فكذلك الحال في السرد ، ومن أمثلة ذلك ما يسمى بالتشويق فهو عند بارت ليس سوى شكل متميز او متصاعد من أشكال الانحراف ،اذ يتمسك بوظيفة انتباهية ظاهرة ،ومن جهة أخرى يقدم له تهديدات متوالية لما تكتمل بعد ، بحيث يهدد القارئ بمنطق مشوش .


وفي العنوان الأخير "المحاكاة والمعنى "يهاجم كما يبدو "الواقعية القصصية"فليس هناك واقع في القصة "فما يحدث هو اللغة وحدها".



خامسا : نموذج جيرار جينيه :ينطلق جيرار جينيه في "خطاب الحكاية""6" من تمييز ثلاثة معاني لكلمة "حكاية " ترجمت هذه الكلمة الى العربية : حكي-قص –حكاية-قصة و ينبغي الانتباه لاختلاف ظلالها الدلالية عما يفهم من المقابل العربي –حكاية .



أ-تدل كلمة حكاية على المنطوق السردي ، أي الخطاب الشفوي أو المكتوب الذي يضطلع برواية حدث أو سلسلة من ألأحداث .



ب- سلسلة ألأحداث الحقيقية أو المتخيلة ، التي تشكل موضوع الحكاية "بالمعنى الأول" و مختلف علاقاتها .



ج- تدل على حدث ، غير أنه ليس البتة الحدث الذي يروي بل الحدث الذي يقوم على أن شخصا ما يروي شيئا ما ،انه فعل السرد متناولا في حد ذاته .


و يختار جينيت المستوى الاخير كمركز لاهتمامه وهو ما يسميه "الخطاب السردي" بوصفه الحلقة الاهم لاختيار فعل السرد ، ولاكتشاف آليات عمل النص السردي و تشكله .


يتميز عمل جينيت بالدقة المتناهية و الشكلية الصارمة ، وبأنه محصور في دراسة "الخطاب" و تشكلاته من خلال خمسة مداخل ، لكل مدخل تفريعات محددة منضبطة على النحو الآتي :



1- الترتيب : ويشمل عنده :زمن الحكاية –المفارقات الزمنية –المدى و السعة –الاسترجاعات-الاستباقات –اللاوقتية .

2-المدة:وتشمل:اللاتواقتات-المجمل-الوقفة-الحذف-المشهد .


3-التواتر :و تبرز فيه الأمور التالية :ألتفردي/الترددي-التحديد و التخصيص و الاستغراق


التزمن الداخلي و التزمن الخارجي- التناوب و الانتقالات- اللعب مع الزمن و به .


4-الصيغة:وتشمل دراسة :صيغ الحكاية-المسافة-حكاية الأحداث –حكاية الأقوال –المنظور-التبئير-التغيرات – التعددية الصيغية.


5- الصوت : ويشمل : المقام السردي – زمن السرد –المستويات السردية – الحكاية القصصية التالية – الانصرافات –الشخص – البطل / السارد –وظائف السارد – المسرود له.


أما الرواية التي اعتمد عليها "جينيت"في التحليل و في توضيح مصطلحاته ، فهي الرواية الهامة لمارسيل بروست " بحثا عن الزمن الضائع" و على الرغم من أن "جينيت"يتظاهر بان النموذج النصي هو الذي أوصله أو يوصله إلى التحديدات الشكلية ، فان النموذج النظري يطغى على عمله ، بحيث يصبح له الحضور الطاغي و تتضاءل أهمية النص في مقابل الانجاز الاصطلاحي و المنهجي الذي ابتدعه جينيت ، و حاول أن يكون مقترحا منهجيا يصلح لتحليل مختلف الآثار السردية .


و برغم أن النقد الأمريكي و الانجليزي مغاير في اتجاهاته السردية حتى من ناحية تاريخية ، فقد لحقت رياح التغيير بهذا النقد ، فنشأ فيه تيار بنيوي مميز، و قد أسهم عمل جينيت بترجمة الانجليزية في تقوية هذا التيار ، الذي يمكن التمثيل عليه بجوناثان كولر ، الذي احتفى بعمل جينيت و كتب مقدمة الطبعة الانجليزية له ، و اعتبر ان عمل جينيت " لا يقدر بثمن ،لأنه يسد الحاجة إلى نظرية منظمة في الحكاية، فهو أكمل محاولة لدينا لتعرف مكونات الحكاية و تقنياتها الأساسية و تسميتها و توضيحها " . و يفسر جوناثان كولر اختيار "جينيت"لرواية "مارسيل بروست" نموذجا نصيا له موقع التحدي و المغامرة ، و لأنه " عقد العزم على أن يكذب المتشككين الذين يؤكدون أن التحليل البنيوي لا يلائم إلا ابسط الحكايات ، كالحكايات الشعبية ، فأبدى الشجاعة ، و اختار إحدى اشد الحكايات تعقيدا و دقة و تشابكا موضوعا له " "7" .


3. الخلاصة



لقد ولد النموذج البنيوي قائمة هائلة من المصطلحات و الإجراءات المنهجية ، لكن لو حاولنا إحصاء النصوص التي حللت أو حظيت بالاهتمام ، للاحظنا أنها نصوص قليلة ، مما يشير إلى غلبة النظري على النصي ، نصوص قليلة مقابل حشد هائل من التحديات و الخلاصات النظرية ، في صورة توغل واضح في النظرية على النص ، بدعوى اكتشاف الأشكال ،أكثر من قراءة النصوص .


هناك أيضا صور من النقد اللاذع وجه لهذا التيار، و لهذه الطريقة ، منها تخوفات العلماء الإنسانيين من أن هذه الفعالية النظرية " ستدمر القليل المتبقي من الإنسانية ، بواسطة قلبها إلى شكل مغشوش من العلمية " "8".



و في النسخة العربية من " السرديات "فصول هامة ، لا يمكن لأحد إنكار فضائلها ، سواء من ناحية التعريف بهذه الطريقة /المنهج/ العلم ، او بمحاولة تطبيقها و تكييفها مع نماذج من السرد العربي ، و مما أنجزته الصيغة العربية ، إنها أسهمت في التخفيف من هيمنة "النقد المضموني" النقد الشارح الحكيم الذي يقول كل ما حول النص ، و كل ما يمكن استدعاؤه من شعارات و قضايا "اجتماعية" و "سياسية" و"اقتصادية" لكنه يصمت عن النص نفسه .. لقد خلصت النقد العربي من بعض ما أفسده من ثرثرة و خطابة لحقت بكثير من نماذجه و أمثلته ..كما أسهمت في فتح بوابة السرد العربي القديم ، الذي لم يدرس على نحو ملائم حتى ضمن المناهج التقليدية ، فكان من فضائل السرديين العرب في الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين و حتى اليوم اكتشاف الكنز السردي عند العرب كمادة صالحة للتحليل و الدراسة بعد ان ظل يعاني الإهمال و الإقصاء زمنا طويلا متطاولا .



و لكن على الرغم من كل الإشارات الايجابية فما يزال الدرس السردي ، سواء بصيغته البنيوية أو السيميائية أو حتى الصيغ اللاحقة التي تفتحه على فروع جديدة : "السرديات السياقية ، السرديات الثقافية " ما زال محصورا من ناحية الاهتمام به في أطر ضيقة ، فحتى اليوم ليس لدينا مجلة متخصصة في السرديات بمعناها النقدي و النظري ، وليس لدينا " في المشرق العربي مساق أو مادة في خطط أقسام الأدب باسم السرديات " و إنما تدرس ملحقة بالأدب الحديث "مع التركيز على الرواية " أو ملحقة بنظرية الأدب . و الاعتراف بهذا الفرع من الدراسة يعني أن يعطى مساحة أوسع، حتى لا نؤجل الأمر ، و ننتبه له متأخرين بعد أن يكون البحث فيه قد صار من أدبيات أو كلاسيكيات الدراسة الأدبية .



أما الطموح الأرقى ، فهو وضع "سرديات عربية " ذات هوية و خصوصية ، فمع التسليم بما بين الأدب و الفنون من مشابه عالمية ، فان نظرية الأدب لا تنفصل عن الثقافة المتولدة فيها و عنها .. أليس بالإمكان في ضوء غزارة الإنتاج السردي الراهن ، و في ضوء الكنز السردي الرصين استنباط علم سردي بأصول و معالم عربية !!

كاتب اردني


للعـــــودة للصفحــــــة الرئيســــــــة – العـــدد العاشــــــر

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق