فاعلية التحول السردي: حركة الرسالة في فضاء الثقافة
* د. لؤي حمزة عبّاس
تُعلن الرسائل، بوصفها نصوصاً، ولاءها شبه المطلق لقوانين الثقافة التي تندرج ضمنها،
وتحترم بدرجة كبيرة وجهة نظر المنتمين إليها(1)، إنها تستجيب في فاعلية إنتاجها لأنظمة التعامل وتحافظ على أخلاقياتها لما توجبه طبيعتها من انتماء لفضاء عام، فالرسالة مثلما تقدّم صورة بيّنة عن مرسلها تحافظ في مهمتها الاتصالية على صورة متلقيها، حيث تختلف وتتغيّر شفراتها السوسيو – ثقافية واللسانية باختلاف منزلة المتراسلين ومكانتهم، في إشارة صريحة منها لارتباطها بأنظمة الثقافة وآلياتها، إنها تتشكل ضمن قوانين عامة مستجيبةً لمستويين من التواضعات: مستوى جزئي وآخر كلي، أما الجزئي فهو ما تجترحه رسالة بعينها بالنظر
لمناسبة موضوعها ومنزلة المتراسلين، بما يتطلّب حضوراً خاصاً هو من أولى سمات الرسالة ومتطلبات حركتها ضمن المستوى الثاني الذي تحافظ فيه على سنن الرسائل وأساليب كتابتها ضمن فضاء عام هو فضاء الثقافة بما يمكن معاينة أثره في تغيّر أشكال الرسائل وأنظمة أدائها مع تغيّر الثقافة المنتجة.
تقدّم الرسائل، وهي تحافظ على القوانين وتحترم وجهات النظر، مثالاً مناسباً في امتثال الخاص إلى العام واستجابة الذاتي للموضوعي، وإن كانت من أكثر فنون الأدب تعبيراً عن الخاص، وأوضحها في كشف الذاتي وإضاءة كوامنه وهي بحسب تعبير ابن حزم وجه من وجوه اللذة التي تتعدد بتعدد وجوه المراسلة فإن " الكتاب للسان في بعض الأحايين، إما لحصر في الإنسان، وإما لحياء، وإما لهيبة " (2) بما يمنح الرسالة – في العشق- دوراً بالغ الأهمية إلى الدرجة التي يُستغنى بها أحيانا عن الحوار المباشر بين متحابين لما فيها من سرور يعدل اللقاء. إن الذات تواجه في الرسالة حضورها عبر مواجهة الآخر مثلما تؤمّن للآخر حضوراً لا ينقطع إلا بانقطاع الكتاب ولا يغيب إلا بغياب أثره . وتعيننا حركة المدلول اللغوي للرسالة من الاستعمال الحسي إلى الاستعمال المعنوي على تحديد معنى المواجهة والتوجيه لفاعلية الإرسال في الوقت الذي تكون فيه الرَّسالة والرَّسالة أسما لها(3)، وهي تهيئ من إمكانية اللغة وقابليتها البلاغيّة ما يضيء رغبة صاحبها في استجابته للأنظمة والأعراف التي يعتمدها الترسل في زمان ومكان معينين، فإذا كان المرءُ مخبوءاً تحت لسانه وطي رسالته فإنه يُعلَن ويُكتشًف حال كلامه ونشر صحيفته، لتمرّ الرسالة بمراحل يتغيّر فيها المرسل إليه بتغيّر آلية الإرسال وزمنيته، إنها توجَّه في أول أدوارها إلى الذات (المرسِلة) بما تقوم به من مواجهة بعض ما يخالجها من مطامح أو رغبات أو مخاوف ..ستمثل الرسالة غير المفضوضة، والرسالة الموضوعة في قنينة، والرسالة المنقوشة على حجر صورة مثلى للرسائل الموجهة إلى الذات، إن الآخر المُنتظَر الذي سيفضّ في زمن مجهول غلافاً، أو يفتح غطاءً، أو يرفع حجراً، هو أمل الذات، رجاؤها غير المنقطع وقد تمثّل بمرسَل إليه، إنه يغدو مُتضمَّناً في رسالة الذات وهي تؤدي، في هذه المرحلة، دورَي المرسِل والمستقبل في آن فتنشيء رسالتها على أساس ما ترضى به وتركن إليه، وهو ما يماثل عبر مفهوم التواصل بعض نتائج نظرية (التحفيز) في علم النفس المعرفي، فإذا أرضى مرسل
تحفيزه الخاص من خلال شروعه في انجاز (رسالته) فهو في الوقت نفسه يُضمِّن (رسالته) كل ما يعمل على إرضاء شخص آخر توجَّه إليه(4) .. تواصل الرسالة رحلتها حتى تصل إلى المرسل إليه فتتسع دائرتها وتكتمل أركانها الموضوعية محققة مرحلتها الثانية، حتى إذا تعدّت مجالها الثاني منشورةً أمكن لعدد لا نهائي من القرّاء أن يقوم بمهمة المرسل إليه على اختلاف نواياهم وأمزجتهم وأزمنتهم ووسائل اكتشافهم، إن البُعد والغياب في أصل الاشتقاق في
الترسل(5) يؤكدان حضور الفسحة الزمنية بين مراحل حياة الرسالة بناءً على التباعد المكاني بحسب تغيّر المرسل إليهم وتبدّل أحوالهم، إنها تحقق، عندئذ، حضورها النصي لتدخل ضمن الرصيد الثقافي، فإن تحوّل الرسالة إلى نص سردي، ثقافي، مرتبط إلى حد بعيد بانكشاف مخبوئها وشيوع ما سُتر فيها، الأمر الذي يغيّر من فاعليتها السرديّة ويؤثر في انتظام أركانها فتتغيّر، تبعاً لحركتها في فضاء الثقافة، أدوارها وتتعدد مهماتها وهي تشكّل من منشئها مركزاً لحركتها الجديدة، إنها تموّل أهمية حضورها من أهمية حضور مرسلها إلى الدرجة التي يخفت معها دور المرسل إليه أو يغيب، وبغيابه تختفي المناسبة التاريخية للرسالة مع استمرار مناسبتها الموضوعية واتساع مجال دلالتها، فتشتق، عندئذ، مناسبة تنسجم وموقعها في الثقافة بناء على انتقالها من وثائقية التاريخ التي لا تكون فيها غير جملة في سياق تحافظ فيه مؤثرات وعوامل خارجية على دورها في إنتاج الرسالة وتأمين مجالات حركتها، إلى المعرفة بما تنطوي عليه من خصوصية وابتكار يؤمّنان للرسالة حضوراً في فضاء تتخلص فيه، إلى حد، من المؤثرات والعوامل الخارجية لتنصت إلى صوتها وتنظر إلى سبل صياغتها التي تعد مسوغاً مهماً من مسوغات حركتها ضمن سياق الثقافة التي كثيراً ما غيّرت مجرى النصوص وعدّلت من مناسباتها، فلا تتطلب الرسالة، عندئذ، أكثر من مناسبة عامة هدفها بيان موضوعها أكثر مما تهدف لتوثيقها وتسمية أركانها، خصوصاً المرسل إليه الذي ينسحب أمام قوة حضور المرسل وجلاء بيانه، فنطالع في " رسائل أبي العلاء المعري" جملة مثل "ومن كلامه" تتكرر ثماني مرّات بين اثنتي عشرة رسالة بوصفها عتبة للدخول إلى الرسائل وهي تعد( كلاماً) من بين كلام مرسلها وليس ثمة مرسل إليه معيناً في توثيق الرسائل وكشف مستقرها، وقد يُصرّح به في تضاعيف هذه الرسائل أولا يُصرّح فيُكتفى بالإشارة إليه بالضمير مرّة " كتبه عندي تترى، دالة على أن مودته ليست مما يُفترى"(6)، أو بالدعاء مرّة أخرى " وقد علم عالم الخفيات أن مودتي له أدام الله عزه ورفع في الخير درجته، إذا انفردت كفت بنفسها"(7)، ليعمل هذا النوع من الرسائل على تأمين موقعه داخل الثقافة بوصف رسائله نصوصاً ثقافية تُتلقى وتُستعاد لما يميّزها من قدرة على المحاورة والاتصال لا مع الذات، وهو الشكل الأول من أشكال الحوار التي تفترضها الرسالة، ولا مع الآخر الذي يعد المستقر التاريخي لها، بل مع الثقافة نفسها بتجدد قرائها وتغيّر نُظم قراءتها.
· التحقق النَصّي للرسالة:
نكون مع التحقق النصي للرسالة إزاء فاعلية ثقافية لا تكفي عملية نشر الرسالة وتغيير قنوات حياتها لإنجاز حضورها الثقافي، إنها تتوجه، قبل ذلك، للانشغال بإمكانياتها وملاحظة سماتها، متجاوزةً مضمونها الخاص وشكلها الفردي، إذ ان "على الأدب أيضاً أن يشير إلى شيء مختلف عن مضمونه وشكله الفردي، ويكون هو حَرَمه الخاص أي ذلك الذي يفرض نفسه بصفته أدباً" (8)، وهو ما سيوجّه الرسالة لملاحظة حضورها وتجسيد كثافتها اللغوية التي لا تبدو معها منشغلة على نحو كامل بانجاز إبلاغها وإيصال محمولها، الأمر الذي يمكن معاينته من خلال انضواء الرسائل الإسلامية تحت فاعلية نثرية متغيرة، تستجيب في أول أدوارها لمألوف الفصاحة العربيّة، كما في رسائل الرسول (ص)، وهي تحتوي الكثير "من عناصر الجمال الفني والمعنوي، كاستخدام المجاز والتشبيه والازدواج والجمل القصيرة المتوازنة، ولكنها تخلو من الصنعة البديعية والتكلّف"(9)، إنها تنشغل، لأسباب عديدة بيّنة، بتحقيق فعل إبلاغها عبر مستوى من (النثر البليغ) لا(النثر الفني) الذي سيُلاحظ على الرسائل مع استقرار الدولة الإسلامية وثبات أركانها، حيث ستحقق الرسائل حضورها النوعي وتنظم ممارستها الجمالية إلى الدرجة التي تقتضي الحاجة معها "إنشاء ديوان خاص للرسائل يقوم عليه كُتّاب بأعيانهم،ثم تنتشر الظاهرة فيصبح للولاة أنفسهم دواوين للرسائل، يقوم عليها كتّاب
مختصون " (10).
إن حركة الرسالة الإسلامية بين نوعين من النثر: بليغ، يتجاوز الزخارف، ويختار أقصر الطرق اللفظية وأكثرها وضوحاً لأداء موضوعه، وفني، يحرص على فصاحة القول وبلاغته بما يتجاوز أحياناً نطاق موضوعاته، يكشف وعي الرسالة لنفسها، ومعاينة أدبيّتها عبر معاينة جوانبها الجماليّة، كأن أصحابها قد وضعوا نصب عنايتهم توجيه ما يُنجزون من رسائل إلى المرحلة الثالثة من حياة الرسالة، حيث تغدو الرسالة، بحق، عبر تجليها الثقافي، أنموذجا أدبياً يكشف على نحو صريح قدرة العصر الصياغّية، ويشير مع استقلال الكتّاب في إنشاء الرسائل خلال العصر الأموي، واعتمادهم على أنفسهم في صياغتها، إلى تبلّور الرسائل فناً أدبياً راقياً، تغيرت معه أساليب النظر للكتابة والكُتّاب، مثلما تغيرت منزلتهم وهم يقتربون من الخلفاء والأمراء والقادة وأولي الأمر ويتعزز نتيجة لذلك الجانب المعنوي في العملية الكتابية التي تُمنح درجة من التقدير تقرّبها بجملة عبد الحميد الكاتب من النبوّة في إمكانية تلقيّها الوحي فـ" إن كان الوحي ينزل على أحد بعد الأنبياء فعلى بلغاء الكتاب "(11) .
ومثلما أولى فضاء الثقافة عناية للرسالة وأساليب أدائها وغيّر من نظرته لكتّابها ومكانتهم وجّه عناية لحاملها وهو يمثل قناة الاتصال بين متراسِلَين، إن الرسالة تتضح ويشتد تأثيرها بما يحققه سبيل الاتصال من إبانة لفظّية،إن أُذِن للرسول بالكلام أو استُفسر منه ليُسهم بإضاءة وجهة الرسالة و إنجاز أهدافها، أو إبانة حاليّة إذا صمت فدلّ حاله على بعض محموله؛ إن حامل الرسالة يتساوى في دلالته على عقل صاحبه، بجملة يحيى بن خالد، مع الكتاب والهدّية " ثلاثة أشياء تدلُّ على عقول أربابها: الكتاب يدلُّ على مقدار عقل كاتبه، والرسول على مقدار عقل مرسله، والهدية على مقدار مهديها " (12)، إذ يرتفع الرسول في الدلالة إلى ما تدلُّ عليه الرسالة نفسها من جهة الاختيار والتكليف، فدقّة اختياراللفظ وقدرته على الإبانة عن غرض الرسالة تعادلان من حيث علاقتهما بعقل صاحب الرسالة دقّة اختياره رسوله وقدرة هذا الرسول على إنجاز ما كُلف به على أحسن وجه، مثلما يتوحد الرسول في تطّور المصطلح وتعدد مرادفاته مع مصطلح الرسالة نفسه، فقد أكد القرطبي هذا التقارب في إشارته إلى ما ذكره ابن الأنباري من أن الرسول والرسيل والرسالة سواء(13) وعلى ذلك أنشد قول كثيرّ:
لقد كثُرَ الواشونَ ما بُحتُ عِندهُمْ
بليلى ولا أرسلُتهمْ برسيلِ(14)
ومما ورد في مجيء الرسول بمعنى الرسالة بيت الأسر الجفعي
ألا مَنْ مبلغٌ عني خُفافاً
رسولاً، بيتَ أَهلكَ مُنتهاها (15)
وقد يتسع دور الرسول وتنفتح مهمته إلى الدرجة التي يسمى فيها( سفيراً ) فتُضاف إلى مهمة نقله الرسالة أو تماهيه معها مهمة " الإصلاح بين قومين" (16)، بما يتطلّب ميّزات خاصة ينبغي أن يكون فيها " ذا هيئة، حاذقاً، يكتفي بالإشارة، ويقرطس عن الغائب، ويُحسن من ذات نفسه، ويضع من عقله ما أغفله باعثه"(17)، وربما كانت الجملة الأخيرة من كلام ابن حزم تعليلاً لتسمية الرسول بالرسالة فهو يكمل نقص المكتوب ويبين غوامضه، فالرسالة بيان صامت، على ما فيها من فصاحة وبلاغة، والرسول رسالة ناطقة، بما يُتطلب معه أن يكون أكثر من دليل على عقل المرء فإن " بيده حياته وموته، وستره وفضيحته بعد الله تعالى" (18).
مثلما يشير ابن حزم إلى صفات من يستعمل المحبون في إرسالهم إلى من يحبونه، فهو إما أن يكون "خاملاً لا يؤبه له، ولا يُهتدى للتحفظ منه.. وإما جليلاً لاتلحقه الظنن..أو ذوات صناعة يقرّب بها من الأشخاص..أو ذا قرابة من المرسل إليه لايُشق بها عليه"(19)، بما يكشف عن مطابقة الرسول لحال الرسالة وانسجامه مع ظرف إرسالها ليبدو جزءاً من مجاليها الموضوعي والاجتماعي، مثلما يعد علامة منتظمة ضمن السياق الثقافي لعلاماتها، وإذا كانت الصفات السابقة تُقترح لرسول بين متحابين فإن اختلاف الرسائل وتباين موضوعاتها يدعو للتفكير بالصفات المطلوبة لكل رسول وهي إنما تُشتق من مجال الرسالة نفسه وتعبّر عن موضوعها.
إن اشتغال الرسول وسطاً بين طرفين، وتوحده اصطلاحاً مع الرسالة نفسها، وانشغاله بتأدية وظيفة شارحة (لفظية أو حاليّة) يقرّب المسافة بين العنصرين (اللفظ والرسول) في المنظومة الاتصالية للرسالة ويوجهها وجهة واحدة، موسعاً من عمومية الرسالة ومنظماً سبل اتصالها بما تتطلّبه موضوعاتها وبما تقتضيه أوجه دلالتها.
• الرسالة بين واقعتين :
يمثل التحوّل النصي للرسائل وهي تخرج من حدود الفرد إلى أفق الجماعة مسهمة، من جانبها، في تجسيد الرصيد الثقافي، مناسبةً لتأمل ارتباط الرسالة بواقعتها السردية التي تمتد هي الأخرى وتتسع مع حركة الرسالة وتحوّلها، فالرسالة لا تنشأ إلا بارتباطها بواقعة خاصة، بمقدار ما تمثل (الواقعة السرّدية) فعلاً يحافظ في معلوميته ودرجة حضوره على ما يُنجز من خطابات " سواء كانت أدبية أو غير أدبية " (20).
تحقق الرسالة عبر ارتباطها بواقعة معّينة صورةً أولى لحضورها ونمط تداولها متحرّكة في فلك ملكّية خاصة؛ إنها تتحرَّك وتحرِّك واقعتها معها، بما يُشير إلى محدودية الواقعة التي تمثل هنا فعل مشاركة واتصال، بيد أنها تستجيب، مع ارتفاعها ضمن الرصيد الثقافي، لواقعة كبرى تكون مسؤولة بطبيعتها عن تنوّع الخطابات وتغايرها، مثلما تكون مسؤولة عن امتثال تلك الخطابات لأنظمة الثقافة وأخلاقياتها، فإذا كانت الواقعة الصغرى تنتج نصوصها تحت غطاء من الخصوصية والتكتم، فإن واقعة السرد الكبرى لا تمنح نصاً ما حضوراً في أفق الثقافة إلا بما يتحقق له من تداول منتقلاً من إطار الملكيّة الخاصة إلى مُلك عام يشيع ويتسع بوضوح واقعته الصغرى التي تخضع بدورها لمنطق الشيوع والتداول، بما يهيئ تعاملاً جديداً مع الأركان السرديّة للرسالة، يتناسب وحضورها في فضاء الثقافة ويستجيب لفاعلية أنساقها، ولا عجب، في مثل هذا التصور، أن تكون أشهر الرسائل في تاريخ الأدب العربي رسالة بيضاء، غير مسطورة، على الرغم من دورانها قروناً في فضاء الثقافة العربية واستعادتها في أهم مؤلفاتها ابتداء من كتاب المفضل الضبي( أمثال العرب) الذي يورد حكاية المتلمس مع طرفة بن العبد من اللحظة التي كان الأخير فيها غلاماً، منظماً وحداتها السرديّة التي لايكون فيها قول طرفة الغلام ( استنوق الجمل) محض اعتراض على أحد أبيات المتلمس، أشعر أهل زمانه بجملة المفضل، بقدر ما يكون تهيئة لأرصاد بنهاية حياة طرفة، بعد أن ينظر المتلمس غاضباً إلى لسانه ويقول " ويل لهذا من هذا يعني نفسه من لسانه"(21)، وهو بذلك يهيئ مجرى السرد لتواصل الخبر ودخول الرسالة التي سيربط صمتها مصيريهما معاً وسيفرّق بينهما كلامها.
إن الرسالة- صحيفة المتلمس- هي المركز المؤجل للخبر، مثلما هي بؤرته ونواة أحداثه، ولأهميتها لم يستبعد طه حسين " أن يكون شخص المتلمس نفسه قد اخترع اختراعاً، تفسيراً لهذا المثل الذي كان يُضرب بصحيفة المتلمس"(22)، إن الثقافة، بجملة أخرى، تعمل على ردم فراغات أخبارها في سبيل موضعتها وضمان فاعليتها ضمن حركة أنساقها، الأمر الذي يغدو معه بياض الرسالة تحبيراً، وفراغها امتلاءً، وصمتها كلاماً، فإن سكوت مختلف المصادر عن ملفوظها لا يشير إلى عدم قدرة الملفوظ على التأثير، كما أن غياب حاملها لا يعني غياب محمولها، إذ أن الواقعة السرديّة الصغرى، واقعة الرسالة ومفاد خبرها، تعمل على كشف الحامل عبر كشف المحمول، بما تقيمه من وشائج مع الواقعة السرديّة الكبرى، نُظم الثقافة وأنساقها، وهي تفكك الخبر، على نحو ما، في اللحظة التي تتناقله فيها، تعيد كل عنصر من عناصره إلى حقله ومرجعه فتبدو حركته عندئذ مسوغة من خلال إصرار الثقافة على تأمين ما يمكن من الصلات بين واقعتيه، مثلما يكون مسؤولاً بدوره، مع عدد كبير من الأخبار، عن تأمين فاعلية النسق وهو يوحد العناصر وينظم المجريات ويتحكم بالمصائر والأعمار، فالشاعران وقد هجوا عمرو بن المنذر بن إمريء القيس حتى أحنقاه عليهما، ثم وفدا عليه، فتلقاهما لقاءً حسناً وكتب لهما كتابين(= رسالتين) إلى عامله بالبحرين وأوهمهما أنه كتب لهما بالجوائز والصلات، فخرجا يقصدان هذا العامل، إنما يشكلان بخبرهما صورة أولى من صور العلاقة بين الشاعر والملك، في مدحه وهجائه، مثلما يمثل الخبر صورة مبكرة لغضب الملوك وعقابهم الفوري أو المؤجّل، هذا العقاب الذي يُقرأ ولو عبر رسائل مسكوت عما سُطّر فيها، شك المتلمس في كتابه فأقرأه غلاماً من أهل الحيرة، فإذا فيه أمر بقتل المتلمس فألقى الكتاب في النهر وألح على طرفة أن يفعل فعله فأبى، وافترق الشاعران : مضى أحدهما إلى الشام فنجا، ومضى الآخر إلى البحرين فلقى حتفه.
تضم الواقعةُ السردية الكبرى الرسالةَ وتحتوي واقعتها، لكن الواقعة الصغرى، وهي تنتج رسالتها، لا تضم، بالمقابل، الواقعة الكبرى وإن حافظت على سننها وأنظمة أدائها في ما تنتج من نصوص، إن رسالةً لم تحقق حضورها النصي تظل، مهما كانت أهميتها، نصاً مغفلاً،
خارج سياقات الثقافة ونُظم تداولها، فالرسالة تتحرّك، بجملة أخرى، على طريق ذي اتجاه
واحد هو اتجاه الذهاب الدائم مما هو شخصي وسري إلى ما هو عام ومباح، لتغدو، عندئذ، نصاً غير مرتجع بين واقعتين.
· الهـوامــش:
(1) الأدب والغرابة، دراسات بنيوية في الأدب العربي، عبد الفتاح كليطو، دار الطليعة،بيروت،ط3/1997: 13
(2) طوق الحمامة في الألفة والألاف، ابن حزم الأندلسي،حققه وقدّم له:صلاح الدين القاسمي، دار الشؤون الثقافية- بغداد، مشروع النشر المشترك94:1986
(3) لسان العرب، ابن منظور، إعداد وتصنيف يوسف خيّاط، دار لسان العرب، بيروت(د.ت): (مادة رسل)
(4) ينظر: الاقناع بواسطة التخييل، حميد لحمداني، مجلة (جذور) السعودية ج4، مج2، سبتمبر 2000
(5) "وأصل الاشتقاق في ذلك أنَّه كلام يُراسَل به من بعيد، فاشتُق له اسم الترسُّل والرسالةُ من ذلك".
البرهان من وجوه البيان، أبو الحسين إسحاق بن وهب الكاتب، تح د. أحمد مطلوب، د. خديجة الحديثي: 193
(6) رسائل أبي العلاء المعري،شرح وتحقيق الأستاذ د. عبد الكريم خليفة، منشورات اللجنة الأردنية للتعريب والترجمة والنشر1978 ج3: 655
(7) م. ن :641
(8) درجة الصفر للكتابة، رولان بارت، ت. محمد برادة، دار الطليعة، بيروت1980 : 28
(9) المكوّنات الأولى للثقافة العربيّة، د. عز الدين إسماعيل، وزارة الأعلام، بغداد1972: 113
(10) نفسه.
(11) عبد الحميد الكاتب وما تبقى من رسائله ورسائل سالم أبي العلاء، دراسة وإعداد د.إحسان عباس، دار الشروق، عمّان291:1988
(12) البيان والتبيين، الجاحظ، تح. عبد السلام محمّد هارون، مكتبة الخانجي، القاهرة ط5 - 1985: 2/101
(13) بهجة المجالس وأنس المجالس وشحذ الذهن والهاجس، أبو يوسف بن عبد الله القرطبي،تحقيق: محمد مرسي الخولي( الدار المصرية للتأليف والنشر) ط دار الجيل(د . ت) : 1/277
(14) اللسان: (مادة رسل)
(15) الصحاح، إسماعيل بن حماد الجوهري، تح. أحمد عبد الغفور عطّار، دار الكتاب العربي، مصر (د.ت): (مادة رسل)
(16) اللسان: ( مادة سفر)
(17) طوق الحمامة، م.س:96
(18) نفسه.
(19) نفسه:97
(20) الكلام والخبر، مقدمة للسرد العربي، سعيد يقطين، المركز الثقافي العربي، بيروت 1997: 19
(21) أمثال العرب، المفضل الضبي، قدم له وعلّق عليه د. إحسان عباس، دار الرائد العربي 1981 :184
(22) في الأدب الجاهلي، طه حسين، دار المعارف بمصر(د.ت):231
*أكاديمي عراقي
للعــــــودة للصفحـــــــة الرئيســـــــــة – العـــدد العاشـــــر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق