(لعبة مفترق الطرق).....لإسماعيل غزالي
سوريالية المصائر المتقاطعة
*ميسلون هادي
يدخل الكاتب المغربي الشاب إسماعيل غزالي في مجموعته الرابعة*(لعبة مفترق الطرق) إلى أطلس الدروب المتقاطعة التي يعيش أو يموت من أجلها البشر، متاهات تبدو لنا قدرية وعصية على التغيير ولكنه يعمد إلى تفكيكها وتحويلها إلى خرائط وحشية تشاكس الواقع وتلتف عليه بإفعوانية مدوخة..إنه قاص ملفت للانتباه ينتمي إلى سلالة القصاصين الذين يكتبون القصة بالفرشاة ويرسمونها بالقلم جاعلين من سوريالية الحياة وسيرورتها الوجودية وسيلة لإتمام لوحة اللحظة التي تؤطر حدثاً قد يبدو في غاية الأهمية ،وفي الوقت نفسه هي زائلة وعرضية وتقع في عقابيل مصادفة عبثية قد تؤدي الى مفترق طرق.
في قصته الأولى (النائمات على العشب) يذكرنا غزالي بنجوم الثريا في السرد القصصي والروائي المعاصر والتي يعد بورخس من أهم المشعين في سمائها ..فهو أيضاً معني بمتاهات الحياة في نصوصه الرملية التي تجمع بين لحظات درامية أو تراجيدية منقضية وبين زمان مطلق يجعل من تلك اللحظة الوقتية عصية على الزوال..ثم يهدي غزالي قصته الأخيرة التي تحمل عنوانها المجموعة وهي (لعبة مفترق الطرق) إلى نجم من نجوم تلك المجرة وهو محمد خضير ،حيث يجد راكب الدراجة نفسه في مفترق طرق ثلاثة يميناً صوب الغابة وشمالاً صوب النهر وأماماً صوب جبل الثلج ..وعندما يسلك راكب الدراجة الطريق المتجهة صوب النهر شمالاً،هناك سيجد نفسه أيضاً عند مفترق طرق ثلاثة: الطريق الذاهبة يميناً صوب الخلاء .الطريق الذاهبة شمالاً صوب القرية .الطريق الذاهبة أماماً صوب النهر .
يذهب في واحد منها فيجد نفسه أيضاً في مفترق طرق ثلاثة ...وهكذا تتكرر لعبة مفترق الطرق لعدة مرات إلى أن يفترق راكب الدراجة عنها جميعاً ليجد نفسه في مشفى لمجانين يحاولون تصحيح اختياراته بل ويحاكموه على تلك الاختيارات ..هنا تكتمل لعبة تقاطع الطرق التي لاتتقاطع فيها المصائر حسب ،وإنما تبدو فيها الغنائم عبثية وتقود الى عالم من التيه والضياع..ولنعد إلى أكثر قصص المجموعة تميزاً ونعني القصة الأولى (النائمات على العشب) وفيها نقرأ عن أربع نساء يقصدن المدينة فتتعطل بهن السيارة في الطريق ويتركهن السائق على ضفة النهر بانتظار تصليح العطل..عجوز وثلاث نساء يتجاذبن أطراف الحديث ويفتحن جروحهن بالكلام ..بينما لايسمع في الوادي سوى هدير النهر ..وحلت الظهيرة في ذلك الوادي الخالي من البشر وجفت آخر قطرة ماء على اجساد النساء اللواتي أزجين الوقت بالاستحمام في النهر والسائق لا يرجع ، ولن يرجع أبداً بل تمر سيارة جيب أخرى وينادي سائقها عليهن بالركوب لنشدان المدينة فيصعدن معه ويشرحن أهداف الزيارة ..ولكن لدى وصول النسوة (الوصول في قصص المجموعة هو عتبات جديدة لبدايات أخرى)إلى تخوم المدينة تكشف القصة عن السبب الحقيقي لذهابهن الى المدينة ..وأيضاً عن كون السائق الثاني قد تلصص عليهن ورسمهن أثناء نومهن على العشب في لوحة أسماها (النائمات على العشب) ........هنا يكون السؤال الوجودي محتوماً في النهاية :حكاية من إذن هذه القصة؟؟ هل هي حكاية السارد المتأمل عن السائق الرسام أم حكاية السائق الرسام عن النائمات على العشب أم حكاية النائمات على العشب عن أقدارهن الغريبة التي تقاطعت عند مفترق الطرق؟؟ تلك المفترقات هي لعبة السارد السوريالية التي لا يتبقى منها في النهاية سوى لوحة أو قصة أو لحظة بوهيمية.
منازل الشمس
وفي قصة (إثنتا عشرة ساعة قبل سقوط صنوبرة)تصعد القصة ببطلها ساعة بعد أخرى من شروق الشمس إلى غروبها ..لنكتشف في كل ساعة أن هناك مفترق طرق سيلتقي فيه إثنان من البشر ..سيرسم الرسام بورتريه الابنة البكر التي عبرت المكان منذ ساعة ويبدو أنه يحبها وإن كانت تحب عازف القيثارة ..وعازف القيثارة يحب أختها الصغرى التي تفكر بالرسام الذي يحب اختها الكبرى ..بينما الأم مستغرقة في تذكر أول قبلة مع ابن الجيران..الذي صار كاتباً للسيناريو بينما تم عقد قرانها على كاتب محاضر البوليس ..سيمر الكاتب أيضاً بالطبع وسيكتب كلمات على ورقتين جعد واحدة منها ورماها على سفح الصنوبرة كما يفعل دائماً..
ومع توالي الساعات سيصعد الفتى المجنون إلى الشجرة الملعونة التي التقى عندها الجميع فيجد ورقة الكاتب المجعدة وتلتقي الخطى مرة أخرى في لحظة قدرية أخرى تنتهي بمفارقة وجودية حاسمة أو غير مكتملة أحياناً.
..في القصة الثالثة(مالم يخطر على بال الخنفساء)تكون الخنفساء هي القاسم المشترك بين مجموعة عناصر..وفي قصة(اليعسوب)يكون القاسم المشترك هو اليعسوب الذي يسقط في جفنة بنت من ثلاث بنات يغسلن الملابس على ضفة النهر ،فيثير سقوطه تقولات وتشوقات وأمنيات كبيرة للفوز بفتى الاحلام الذي كان في تلك اللحظة يلقى مصيره المحتوم مع فتاة المدينة وراء الجبل الازرق.
يستعمل اسماعيل غزالي لغة تشكيلية مفاجئة منادية مفارقة تخالف المألوف وتلعب لعبة أخرى موازية للعبة المصائر ولكن في السرد..أنها لعبة الكلمات وتلاوينها الشعرية التي تستعير من الحياة علاقاتها المألوفة ثم تسقطها على كائنات أخرى ،فالشمس قد تقطع بالمقص أو تدهن بالزبدة أو قد تسعل أو تركض ..لغة غير تقليدية تغوي السارد على المضي بها حتى النخاع فتجمح إلى التعقيد في بعض قصصه أحياناً كقصتي الخنفساء واليعسوب، وتجنح في قصص أخرى إلى السلاسة بامتياز كما في قصة (النائمات على العشب) و(سرنمة على الجسر) حيث يلتقي على القنطرة رجل وإمراة بعد عشرين عاماً من الفراق..ثم يسير كل منهما في اتجاه معاكس بعد لقاء حميم..هو إلى غرب المدينة وهي إلى شرقها..أنه مفترق طرق آخر ،أو حلم آخر من أحلام مفترق الطرق.
وهو حلم سيتكرر في قصة (حصان القيلولة الابيض) حيث يصطاد الجمال الوحشي الصاخب لفرس بيضاء ،عين سائحة مولوعة بتصوير البجع الواقفة على سفح شجرة مطلة على البحيرة ولكن ذلك الحصان البربري الابيض يصرفها عن مهمة رصد الطيور المهاجرة ..فيرصدها الكاتب في مفترق طرق آخر..
لابد من التوقف عند قصة (وحدها القبلة تعلم لماذا سيحدث هذا)حيث يخترع لنا غزالي لعبة أخرى تتجاوز اللعب المشاكس بالكلمات إلى استعمال رموز وحروف موسيقية ورياضية واشكال هندسية تجاور مفردات قد تكون معنية بهذا الرسم أو لاتكون ،فهناك مربع أسود يجاور كلمة السبورة ،وإشارة (الانفنتي)اللانهائية تجاور مفردة التوحد وثمة دائرة قرب مفردة الصمت وعلامة ضرب بقرب استاذ الرياضيات .......الخ .وهكذا يمزج غزالي بين مفردات عربية فصيحة وعلامات رقمية وحاسوبية غامضة ،تاركاً أياها بدون هوامش لكي تثير مخيلة القارئ،على مابدا لنا،فيفتحها على مختلف الطرق والاحتمالات....
مسك الختام فإن للقاص المغربي اسماعيل غزالي عالم خاص جداً من السرد شكلاً وموضوعاً وعماد هذا العالم هو فكفكة المشهد إلى تفاصيل كثيرة ثم لملمتها في لوحة أخيرة من خلال نافذة أو فرشاة أو مفترق طرق ..فقد تفتح إمراة دفترها لتكتب رسالة إلى صديقها في مدينته الساحرة ولكن ثمة شخص آخر وراء نافذة الفندق الصغير يلملم ذلك المشهد المبعثر في قصة قصيرة... ..أو قد يسلك راكب الدراجة الطريق المتجهة صوب النهر شمالاً،ولكن ثمة مسارات أخرى مبعثرة بانتظاره يلملمها القاص في مشهد أخير... ويالها من لعبة تحتمل كل نزق الكلمات وعواصف الأفكار التي تعصف بمفترقات الطرق، حيث وفي كل قصة من قصص المجموعة سيجد العابرون أنفسهم واقعين تحت رحمة تلك العواصف، وهنا سيجعل الكاتب مفترق الطرق قابلاً للقسمة الطويلة ومن ناتج القسمة يتحول المغزى إلى لامغزى بل ومادة تتمشكل حولها مصائر المجانين والعقلاء على السواء.
قصص مجموعة (لعبة مفترق الطرق) كانت بامتياز تلوينا وتنويعا على ثيمة مفترقات الطرق والتي ترتكز إلى تكنيك مبتكر يعتد بلملمة ما تبعثر وبعثرة ما تلملم وبطريقة تجعلنا نشير إلى فرادة هذا المنجز القصصي متمنين أن يعمد غزالي في مشروعه المبتكر الذي يعمل عليه بصمت، إلى إثارة العواصف مع المصائر أكثر من إثارتها مع الكلمات مما قد يقود تلك المصائر الى أن تصبح مادة طيعة للتلقي والتلاقي مع القارئ سواء من منظور العقل أم الجنون.
*لعبة مفترق الطرق صدرت حديثاً عن دار فضاءات في عمان
* كاتبة وقاصة عراقية
للعـودة للصفحـة الرئيســـــة – العدد العاشـــــــــــر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق